صحيفة إضاءات الشرقية الإلكترونية 

منذ 1 يوم 0 61 0
مكتبة الحياة الصامتة .
مكتبة الحياة الصامتة . إستمع للمحتوى

 

الكاتبة ـ مريم سليمان الجهني .


 

لماذا لا تكون هناك شهادات أعلّقها على جدران حجرتي؟

شهادات صبرنا على غدر الماضي، على العيش في أماكن لا تشبه ملامحنا، ولا توقظ فينا ذكرياتنا، اعتدناها جبراً لا فضلاً.

شهادات على اجتياز أوقات خلت من رحمة، على مواجهة قلبٍ مجروح، على الإستمرار حين اختفى كل دليل، حين لم يبقَ سوى إرادتنا الصامتة.

 

لماذا لا نكتب في سيرتنا الذاتية خبرات الفشل، صبر الغياب، احتضان الحزن الذي اعتدنا عليه؟

نحن هنا جميعًا، في قاعة اختبارات الحياة، بلا معرفة بالمواد، بلا استعداد مسبق، نخوض امتحانات لم نذاكرها قط، وربما لا نعرف أحداثيات الحل، أو أشباه الحلول.

كل يوم يقدّم لنا مسألة جديدة، بلا دليل، بلا وصفة، نحتك بالخذلان، نمتزج بالفرح المؤقت، ونتعلم قوانينًا لا يعلمها أحد سوى القلب نفسه.

 

لم يضع الخوارزمي قانون جبر الخواطر، ليعلّمنا كيف نحسب ألمنا قبل أن يخنقنا، وكيف نحل معادلات الألم الصامت.

لم يحدد البيروني حدود أراضينا الداخلية، فلم نتعلم كيف نعيّن مساحات أمان للقلب، ولا كيف نحمي أرواحنا من الإنكسار.

ابن الهيثم، أعيُن بصيرته، لم تمنحنا رؤية من حولنا بصدق، ولم يرسم لنا خارطة لتمييز النوايا، فصرنا نفكّر ونتأمل ونخسر أحيانًا.

الزهراوي وضع أدوات الجراحة، لكنه لم يجد طريقة لشفاء جراح القلب، لتظل آثار الخيانة والفقد محفورة في أعماقنا.

سيبويه لم يضع قواعد تمنع اختلاط الأرواح بما لا يستحق، وابن جني لم يجعل أصواتنا حكراً علينا وحدنا، لتظل مسموعة لمن لا يعرف قيمتها.

 

تمامًا كما جرب ابن سينا صبره على التعلم والبحث، واجتياز الصعوبات الطبية والفلسفية، نواجه نحن في حياتنا تحديات بلا دليل، بلا وصفة. كل تجربة ألمنا نعيشها اليوم، كل خذلان وكل جرح، هي كمعمل نختبر فيه صبرنا وفطنتنا، كما اختبر ابن سينا ذاته ليصل إلى حكمة كانت تُنقش في كتب التاريخ.

 

كل علماء الأرض لم يضعوا لنا قوانين للبقاء، ولم يكتبوا نظريات لحماية القلوب من الألم، ومع ذلك نحن ننجو، نصمد، نتعلم، ونعلّق شهاداتنا على جدران الحجرات، لتذكرنا بما اجتزناه، بما صبرنا عليه، وبما علّمتنا إياه الحياة، بعيدًا عن أي درجات أو أوراق.

 

هكذا، تصبح الحياة قاعة امتحان بلا نهاية، ونحن خريجوها، نحمل شهادات أسمى من كل درجات العالم، وأصدق من كل قوانين البشر، شهادات على القدرة على الحب، الصبر، التكيف، والتحمل، شهادات على أننا ما زلنا نكمل الطريق رغم كل فقد، رغم كل جرح، رغم كل غياب للعدل.

 

لكن هناك سر لم يذكره أحد، شهادة لا تُعلق على الورق، ولا تُرى بالعين، لكنها تُنقش في أعماقنا: القدرة على الإستمرار حين ينهار كل شيء، القدرة على الحب حين يخوننا العالم، القدرة على الثقة حين تتهاوى كل القواعد.

هذه الشهادة، إن حملناها، تجعلنا أبطالًا صامتين، تجعل من قاعة الإمتحان مكانًا نكتب فيه تاريخنا، ليس بما درسناه، بل بما نجونا منه.

ونحن، في كل يوم جديد، نثبت أننا لسنا مجرد طلاب بلا معرفة، بل خريجو الحياة الحقيقيون، حاملون لشهادات القلب.

 

✨ وفي كل تجربة، ومع كل موجة ألم جديدة، نكتشف أن شهاداتنا لا تُقاس بالنجاح أو الفشل، بل بمدى قدرتنا على الوقوف بعد السقوط، على أن نحب بعد الخيانة، وعلى أن نثق بعد الخذلان.

كل قلب صمد، وكل روح تحملت، هي شهادة أكبر من كل درجات العالم، لأنها تحمل حكمة العيش، قوة التجربة، وعمق الإنسانية.

وهكذا، تصبح حياتنا مكتبة من الشهادات الصامتة، معلّقة على جدران قلوبنا، لتكون نورًا يهدينا في الظلام، ودليلًا يذكرنا أننا قادرون على الإستمرار، مهما اجتاحتنا العواصف .

 

صحيفة إضاءات الشرقية الإلكترونية

سجل معنا أو سجل دخولك حتى تتمكن من تسجيل اعجابك بالخبر

محرر المحتوى

ابراهيم حكمي
المدير العام
المدير الفني للموقع

شارك وارسل تعليق